أن تعود رئاسة مجلس الوزراء إلى بيروت ليس بالأمر المستغرب. أما أن تعود إلى "دار المصيطبة"، دار آل سلام، التي كانت محوراً للسياسة اللبنانية منذ ما قبل الاستقلال العام ١٩٤٣، فهذا ما يطرح العديد من الأبعاد التي ربما تكون فقدت معانيها التقليدية ويساهم في المقابل بتقديم تفسيرات جديدة حول واقع السياسة اللبنانية وما آلت اليه في سنوات ما بعد الحرب، خصوصاً أبعاد تحولات الزعامة السنية.
وهنا، حين نقول الزعامة السنية لا نفترض أن تمثيل الطائفة السنية، أو أي طائفة أخرى، ينحصر بمرجعية واحدة فقط. لا بل نشير إلى عملية تعزيز التمثيل السياسي واحتكاره من قبل طرف معين بحجة الدفاع عن مصالح الطائفة. وعملية "التبلّر الطائفي” (١) هذه لا تستمد شرعيتها من منطلق طائفي، لا بل من منطلقات أخرى. فلدى حزب الله، مثلاً، ما يكفي من رصيد مقاوم، مدّعماً بمحورية الرئيس بري في تأمين شبكات زبونية داخل مؤسسات الدولة، ليدعي بأنه يحتكر التمثيل الشيعي. أما الطائفة السنية، فاحتكر تمثيلها من خلال رفيق الحريري الذي أتى بمشروع اقتصادي متكامل وجارف، استتبعه، بخطاب طائفي منذ العام 2000 (٢)، أقصى أو ، على الأقل، أضعف، إمكانية أي منافسة أخرى على رئاسة مجلس الوزراء، وبالتالي احتكار التمثيل السني. فلما اقصى رفيق الحريري اقتصادياً كل منافسة ممكنة على رئاسة الحكومة من خلال علاقته المباشرة مع السعودية واستغلالها داخلياً، تلاه الحريري الأبن (سعد الدين) في إقصاء طائفي معنوي لكل منافسة ممكنة، فخوّن كل من لا يدافع عن دم الرئيس الشهيد أياً تكن مبرراته السياسية او الأمنية.
وهذا ما انعكس سلباً على حكومات عدة (خارج عباءة الحريرية) منها حكومة ميقاتي الأخيرة، والتي نزعت عنها صفة شرعية تمثيل الطائفة منذ اليوم الأول، وانعكس ذلك مباشرة على العمل الحكومي. فباتت سياسات الحكومة الميقاتية متجانسة مع سياسات المدرسة الحريرية، بشقها الاقتصادي النيو-ليبيرالي طبعاً، ولكن بحساباتها الطائفية أيضاً. فلم تمس المواقع الادارية السنية الاساسية والمحسوبة على الحريري. ولما تم رفض التمديد لمدير عام الأمن العام أشرف ريفي، استقال ميقاتي لعدم
رغبته في استفزاز ما يسمى بالشارع السني ظاهرياً، والمدرسة الحريرية السعودية ضمنياً.
وعملية قبول سعد الحريري لتمام سلام، لا تعود إلى إملاءات السعودية بالدرجة الاولى فقط، لا بل تجد جذورها في علاقة والديهما. فلكي يمضي رفيق الحريري بمشروعه السياسي-الاقتصادي كان لا بد له من استيعاب بيت سلام وبيوت بيروتية أخرى، لم تتمكن بدورها من منافسته. ففي ٢٠ ايلول ١٩٩٤، عاد الرئيس صائب سلام ليستقر أخيراً في بيروت بعدما كان قد "نفى نفسه" إلى جنيف منذ العام ١٩٨٤. عودة سلام أتت بعد أن وجه له الحريري دعوة للمشاركة في وضع الحجر الأساس لمشروع إعادة إعمار وسط بيروت. وفي ٢١ ايلول ١٩٩٤ شارك الرئيس سلام في الاحتفال، إلى جانب الحريري والهراوي وألقى كلمة جاء فيها آنذاك: "اسمحوا لي أن أقول بأن ما جرى من إعمار في أرجاء لبنان لا نكران أنه كان شيئاً مهما، ولكن ينطلق الاعمار من بيروت وكل ما عداه يبقى هامشياً". في ٢٢ ايلول ١٩٩٤ نشرت جريدة النهار كاريكاتوراً ظهر فيه الحريري باللباس التقليدي لـ"أبو عبد البيروتي" مدخناً سيجاراً، واضعاً زهرة قرنفل على سترته (على طريقة صائب سلام) قائلاً إن "بيروت شركة واحدة لاشركتين". أي أن الحريري لا يقبل أن يشاركه أحد زعامة بيروت، واستطراداً زعامة الطائفة السنية. وهذا ما انعكس لاحقاً على نيابة تمام سلام الذي فاز بمقعده على لائحة الحريري في العام ٢٠٠٩. إذاً، الجانب الرمزي لاختيار سلام يأتي ضمن إطار الاستيعاب التدريجي للحريرية السياسية لزعامة سلام، وعدم قدرة الأخير على استنهاض حيثيته السياسية التقليدية.
وكما وضع حزب الله خطوطاً حمراء فيما يتعلق بالسلاح، ها هي الحريرية تضع بدورها خطوطها الحمراء أيضاً، أولاً، من خلال نهجها الاقتصادي وثانياً، من خلال تموضعها في مؤسسات الدولة. واختيار سلام جاء نتيجة اليقين بأنه بعيد كل البعد عن تهديد هذه الخطوط بالرغم من أنه يأتي من أقدم البيوت السنية التي خاضت غمار السياسة منذ عهد السلطنة العثمانية.
لاختيار سلام جانب عملي أيضاً، مخفي ربما، مرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان حالياً .لقد صورت الحكومة العتيدة على أنها حكومة إنقاذ أو تهدئة خرقت جو التشنج والتصلب في الحياة السياسية اللبنانية. كما سوّقت على أنّها حكومة لتنظيم الانتخابات النيابية القادمة، وبالتالي هذا ما سيسهل ضمناً مهمتها كحكومة انتقالية ويخفف العبء عنها في ملفين أساسيين: الأول، الملف السوري ومصير سياسة النأي بالنفس. والثاني، موضوع البيان الوزاري الذي يتسلح به حزب الله لإضفاء شرعية لسلاح المقاومة من خلال ثلاثية: "الجيش، الشعب، والمقاومة". ولما كان الملفان في غاية الاهمية إلا أنهما يبقيان في إطار فضاء اللعبة الاقليمية وحسابات النخب اللبنانية الحاكمة مما يسهل أية عملية تفاوض يتنازل على أساسها الجميع من أجل مصالح مشتركة. أما الملف الاقتصادي الاجتماعي والذي يأتي من خارج فضاء تسويات النخب الحاكمة فسيبقى العبء الاساس على أي حكومة محتملة خصوصاً نتيجة التحولات الجذرية الأخيرة، من جراء ظهور خطاب اقتصادي/اجتماعي جدي حول الضرائب والعدالة الاجتماعية (الضرائب على الاملاك البحرية والعقارات ومكافحة السرقات في المرفأ). وبالتالي، يمكن الاستنتاج بأن معطيات مختلفة وقع من خلالها الخيار على سلام. فلا يعد سلام، على نقيض سعد الحريري، ومحمد الصفدي أو حتى عدنان القصار أو ليلى الصلح، لا يعد من أصحاب الاموال، كما لا يعد منافساً لهم. فلا يملك مصالح اقتصادية كبيرة، داخلياً أو خارجياً، تظهره بالمارد المالي الذي يستفز شرائح المجتمع التي راحت تتحرك مؤخراً ضد نخب النظام ومصالحها المالية.
قد تكمن إحدى أهداف الحكومة العتيدة في تقديم فترة استراحة لنخب النظام مجتمعةً بعد أن كادت تهلك تحت وطأة المطالب الاجتماعية والاقتصادية. ستسمح لها هذه الفترة بإعادة تنظيم صفوفها لكي تعود في جولةٍ أخرى لإعادة تموضعها مجدداً على حساب مصالح المجتمع. وهذا ما ظهر جلياً في حديث النائب وليد جنبلاط (٣) عن ضرورة وضع ضرائب على أملاك "البرجوازية والاقطاع" في لبنان، مستشهداً بسياسات فرنسا المتعمدة في هذا السياق. ولا يقول جنبلاط ذلك من باب السخرية أو السذاجة. فربما تكون محاولة منه للهمس في أذن أركان النظام للتنازل عن بعض المكتسبات التي حصلوا عليها وتقاسموها في مرحلة ما بعد الحرب، قبل أن يقضى عليهم وعلى النظام جراء الحراك المطلبي الفاعل. من هنا، لا بد من القول إن الحكومة العتيدة هي حكومة لإنقاذ النظام ... وليست بحكومة إنقاذ.
١. أحمد بيضون، “لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود”، دار الساقي، بيروت، ٢٠١٢.
٢. Hannes Baumann, Citizen Hariri and neoliberal politics in postwar Lebanon. PhD thesis, SOAS, University of London, 2012
٣. حلقة “كلام الناس”، المؤسسة اللبنانية للإرسال، ٤ نيسان، ٢٠١٣.